الشك في الأمور الغيبية

[abo mussaab]

​الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وبعد:تصور أنك أردتَ الذهاب إلى مدينة إربد بسيارتك الخاصة وجئتني فأعطيتك خارطة تبين الطريق بشكل وافٍ ثم انطلقت من هنا من عمان. إذا كنت واثقا في صحة الخريطة وصدق من أعطاك إياها فإنك ستنطلق في رحلتك بنشاط وثقة وسرعة لا تتردد إلى أن تصل إلى إربد. لكن ماذا سيحصل إن أصابك الشك لحظة ما في صحة الخارطة؟ ستبدأ سرعتُك تتباطأ وتبدأ تحس بالتيه وضياع الوقت ثم توقف سيارتك عند محطات متعددة تتأكد من أصحاب المحلات من صحة الخارطة. وكم ستتضايق إن أعطاك أصحاب المحلات دلالات متضاربة عن الطريق.بدأنا بهذا المثال لتوضيح أهمية موضوعنا: الإيمان بالغيب. فهذه الدنيا معبر للآخرة. والخارطة هي دين الله تعالى الذي يوصلك إلى جنة الخلد. إذا كنت مؤمنا بهذه الخارطة إيمانا كاملا فإنه ليس أمامك إلا العمل، والانطلاق بهمة ونشاط وحيوية في طريق الجنة، وتتفجر ينابيع طاقاتك المذخورة في خدمة دين الله والاستقامة على أمره والدعوة إليه.أما إذا دخل قلبَك الشك في خارطة الآخرة واهتز إيمانك بالغيبيات التي يخبر عنها دين الله تعالى فإنك لن تنطلق في الطريق بهمة، بل ستتردد وتشك بأنك في عباداتك تهدر وقتك وبأن العمل للدنيا أجدى، وستتوقف في الطريق عند محطات تسأل عن خارطة السعادة الحقيقية، فقد تتوقف عند محطة العلمانية تارة والاشتراكية تارة وهكذا، وستتمزق نفسك وتضطرب وتحتار. إذن فالإيمان بالغيب هو مفتاح الفلاح، بينما نقصه هو الفيروس الذي يضرب جهاز الإرادة ويُردي الإنسان. ومن المهم جدا في أمراض القلوب ملاحظة أنها على درجتين: فأحيانا يكون المرض شديدا ظاهرا لكنه نادر. فقليلون هم الذين يعلنون كفرهم بالغيبيات كلها. لكن الشكل الأخطر منه لانتشاره بين المسلمين هو الخفي الذي قد لا يعطيه صاحبه الحجم المناسب، وله نتائج سيئة كما سنرى. إن عناصر الإيمان كلها هي إيمان بالغيب: فالله تعالى لا تراه العيون في الدنيا، ولا الملائكة، وإنزال كتب الله من عنده تعالى غيب لم نره، والوحي الذي به أصبح رسل الله رسلا غيب لم نره، والقضاء والقدر وسطره في اللوح المحفوظ غيب، والجنة والنار غيب. لذا فإن الله تعالى عندما وصف المؤمنين في أول القرآن في سورة البقرة بدأ بصفتهم ((الذين يؤمنون بالغيب)). فحري بنا أن نتفحص أنفسنا هل نحن مؤمنون بالغيب كما يحب الله تعالى أم أن عندنا خللا يتحتم علاجه؟ولتسهيل نتاول الموضوع سنقسمه إلى عناصر:أولا) مظاهر نقص الإيمان بالغيبثانيا) هل يقبل الله تعالى إيمانا مخلوطا بشك؟ثالثا) هل إيماننا إيمان أعمى؟رابعا) علاقة العقل بالإيمان بالغيبخامسا) هل وساوس الشبهات قادحة في الإيمان بالغيب؟سادسا) خطورة الأحاديث الموضوعة وتأثيرها على الإيمان بالغيب أولا: مظاهر نقص الإيمان بالغيب: 1) الجرأة على المعاصي:الوقوع في المعاصي له أسباب كثيرة من أهمها نقص الإيمان بالغيب. روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قال:(إنما نزل أول ما نزل منه –أي من القرآن- سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا). فبعدما أحيى الله في القلوب الإيمان بالجنة والنار بدأ بتكليفهم بالأمر والنهي.كما نرى أن الله تعالى إذا كلفنا بأمر بدأ بقوله ((يا أيها الذين آمنوا))...كأنه يقول بما أنكم آمنتم بالغيب فافعلوا أو لا تفعلوا. ويختم الآيات أحيانا بقوله: ((إن كنتم مؤمنين)).وقد بين الله تعالى ارتباط المعاصي بنقص الإيمان بالغيب أو عدمه كما في قوله تعالى:((وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَااتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء)) (المائدة-الآية 81) 2) إنكار حقائق من الدين:وعادة ما تكون هذه الحقائق قد وردت في السنة. فمثلا، روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ))، أي يوم القيامة، إلى ان قال: ((فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ))فإذا بأحدهم يقول: - (من المعلوم المتيقن الذي اتفق عليه العقل والنقل أن الموت ليس كبشاً)!فهذا أنكر ما لم يوافق عقله الناقص لاختلال مفهوم الإيمان بالغيب عنده. فهذا الرجل نفسه لا ينكر أنه يوم القيامة ستمور الجبال وتكون هباء منبثا وأن ما تفرق من أجساد الأموات سيتجمع ويحيون من جديد، وأن الشمس ستُطمس، وهذه كلها خوارق للقوانين الدنيوية، فحسابات الآخرة وقوانينها ليست كالدنيا. فالله تعالى الذي سيُسَيِّر أمور الآخرة بخلاف الدنيا قادر على أن يجعل الموت على هيأة أي شيء.وأعرف خطيبا ذكر في خطبة له حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح)) فقام أحد المصلين وثار واستهزأ بالخطيب! لماذا؟ لأن لأنه لم يقتنع بالحديث! 3) تأويل آيات من القرآن تأويلا فاسدا:وكأن صاحب هذا التأويل يريد أن يعفي نفسه من ثقل الإيمان بالغيب ويطوع الحقائق القرآنية للعقل القاصر. وهو الأمر الذي انتقده سيد قطب رحمه الله على المدرسة "العقلانية" في التفسير لمحمد عبده. فمثلا، عندما أتى محمد عبده إلى قوله تعالى في سورة الفيل: ((وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول (5) )) فسر هذه الآيات على النحو التالي:(وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح. فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه) إلى أن قال: (هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة. وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته).هذا التأويل المتكلف ظاهر البطلان سببه إرادة تضييق نطاق الغيبيات والخوارق. 4) تكلف الأدلة العلمية للغيبيات:في برنامج على قناة (اقرأ) تحدثت واعظة عن حادث الإسراء والمعراج. كان مما قالته أن اكتشاف النظرية النسبية من تحول المادة إلى طاقة يثبت أن إسراء النبي ومعراجه ممكن علميا! وكأن الحادثة كانت خاضعة للقوانين الأرضية لا إعجازا من الله تعالى. ولو استطاعت هذه الأخت تفسير الإسراء إلى بيت المقدس علميا فكيف ستفسر البراق؟ وكيف ستفسر صلاة الأنبياء خلف النبي عليه الصلاة والسلام ببيت المقدس؟ وكيف تفسر معراج النبي إلى السماء ووصوله إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة ووكالة الفضاء الأمريكية تطالعنا كل حين بمجرات وكواكب تبعد عن الأرض مليارات السنوات الضوئية! أي أن الطاقة (الضوء) تحتاج لتصل إلى هذه الكواكب مليارات السنوات، وهذا كله في السماء الدنيا. بينما النبي صلى الله عليه وسلم اجتاز السماوات السبع ودارت معه أحداث كثيرة في سويعات من الليل. فما الفائدة في تكلف تفسير جزئية من الإسراء والمعراج تفسيرا علميا متكلفا باطلابينما الحادثة كلها خوارق للقوانين المادية! 5) عدم التأثر بالأحاديث المحركة للقلوب:إن الشاك في الغيب قد تُذكر أمامه آيات وأحاديث فيها ترغيب أو ترهيب يهز القلوب لكنه بدلا من التأثر بها يبدأ يحاكمها إلى القوانين المادية ويتشكك في مضمونها: أ) في الحديث الذي رواه مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ –أي يوم القيامة- لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا)). المتشكك في الغيبيات بدلا من أن يتأثر بهذا الحديث ويخاف عذاب النار سينشغل باستهوال ما فيه من أرقام والتشكك فيها. ب) وذكر النووي في بستان العارفين أن رجلا سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)) فلبس نعلاً خشبياً -مثل القبقاب- وجعله له مسامير من تحت، فقالوا له: ما هذا يا فلان؟ قال: أخرق أجنحة الملائكة. فيَبُس هذا الرجل، أي شُل (قال الشيخ أبو إسحق الحويني: وهذه القصة إسنادها صحيح كالشمس). ج) لما ذكر الله الزقوم في القرآن قال أبو جهل والمشركون معه: (يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟)! فأنزل الله:((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60) )) (الإسراء). د) وحين ذكر الله تعالى عدد الخزنة، أنهم تسعة عشر، قال أبو جهل: (يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد فتغلبونهم؟) (المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير). فأنزل الله تعالى:((وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا)) وهكذا فإن المتشكك في الغيبيات يفقد لذة التأثر بنصوص الترغيب والترهيب بل قد تزيده هذه النصوص شكا إلى شكه واستهزاء إلى استهزائه. المظهر السادس من مظاهر نقص الإيمان بالغيب:6) التعلق بالدنيا والحرص على لذاتها:قال أُبي بن كعب: (من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات)، أي: من لم يُصبِّر نفسه بما صبر الله به عباده المؤمنين فإنه سوف يتقطع حسرة على ما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها. إن حديثا في البخاري كان له أثر كبير علي أيام الدراسة في أمريكا، حيث كانت الفتنة شديدة ثقيلة. هذا الحديث هو قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:((لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها. ولَقَاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد - يعني سوطه - خير من الدنيا وما فيها. ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا. وَلَنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)). هذا الحديث العظيم يبين أن الخروج في غزوة في سبيل الله في مساء أو صباح خير من الدنيا وما فيها، وأن مساحةً صغيرة في الجنة لا تتعدى ما بين القوس والوتر، بل لا تتعدى ما يحتله السوط من مساحة في الأرض...هذه المساحة في الجنة خير من الدنيا وما فيها! ثم يختم عليه الصلاة والسلام ببيان أن امرأة من أهل الجنة لو اطلعت اطلاعة إلى أهل الأرض لأشرقت أنوارها وفاح عبيرها ما بين السماء والأرض، وأن قطعة على رأسها تتزين بها خير من الدنيا وما فيها من حسناوات ولذات وفتن ومغريات!أحسست حينها بأن الشيطان يحاور اللاشعور في أحدنا فيقول لك: انظر هذه النظرة (المحرمة). فإذا امتنعتَ قال لك الشيطان: لماذا تمتنع؟ فتقول: هذه نظرة محرمة. فيقول الشيطان: وما المشكلة إن كانت محرمة؟ فتقول: تعرضني لعذاب النار والحرمان من الجنة وحورها ونعيمها، فيقول لك الشيطان: وهل أنت متأكد من وجود الجنة والنار؟ إن كان لا جنة ولا نار فإنك تكون خرجت بخفي حنين: لا بلح الشام ولا عنب اليمن، عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة!إن أحدنا إذا استسلم لهذا الخطاب فإنه سيقع في الحرام، وإن لم يقع فيه فستتمزق نفسه حسرة على ما يفوته من نعيم الدنيا وهو يرى غيره ينغمس فيه. أما إن كان صحيح الإيمان بالغيب فإنه يقول للشيطان: اخسأ! فنعم أنا موقن بصدق وعد الله، وأنا موقن بأن متبرجات الدنيا لا يساوين شيئا أمام قطعة على رأسها خير من الدنيا وما فيها، ولن أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.إن التفكير بهذه الطريقة يُحول مصارعة الفتن من معاناة إلى لذة، عندما تستعلي على الشهوات المحرمة وتشعر أنك في كل مرة تترفع فيها فإنك تقترب من النعيم الأبدي السرمدي المقيم، وتستشعر حينئذ معنى قوله تعالى: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) )) (طه). فهذه بعض مظاهر نقص الإيمان بالغيب وهي في الوقت ذاته نتائج مشؤومة لهذا المرض.