جُبلت نفوس البشر على حب الشجاعة والإعجاب بالشخص الشجاع.فكم تطرب نفوسنا عند سماع قصيدة عنترة التي مطلعها:حَكِّم سيوفك في رقاب العُذَّل وإذا نزلتَ بدار ذل فارحلِوالتي قال فيها:لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظلفالعيش إما عـــــــزة أو ذلة والذل لا يرضاه غير الجاهــــل ولا يمكن أن يفوق أحدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي خُلق، فهو أكمل البشر في كل شيء. وهو أشجع الناس ولا ريب. تجلت شجاعته في جهره بدعوته وتحمل الأذى في سبيلها، وتجلت عندما غضب من استهزاء قريش فقال لصناديدها وهو مستضعف: ((أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)) (رواه أحمد وصححه أحمد شاكر)، وتجلت في قول البراء عنه: قال البراء : (كنا واللهِ إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به) (متفق عليه) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما ثبت في حنين واندفع تجاه آلاف الكافرين وقد انفض عنه أكثر جيشه بادئ الأمر (البخاري). قال فيه أنس رضي الله عنه:(كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا) (متفق عليه)...أي لا تخافوا.وإذا مشيت إلى العدا فــغــضـنفر وإذا جريت فإنك النكباءوإذا حميت المــاء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماءشيخ الفوارس يعلمون مكانه إن هَيَّجَتْ آسادها الهيجـــــــاء في كل نفس من سطاك مهـــابة ولكل نفس في نَداك رجـاءبل تتجلى شجاعته في حياته كلها...فيكفي أنه لم يعيِّن حاجبا ولا حراسا ملازمين له مع أنه كان مطلوب الرأس لقوى الأرض، ويكفي أنه صلى الله عليه ولم في سنواته الثلاثة والستين قبل البعثة وبعدها لم يُرصد له موقف واحد من الجبن أو الاستجداء، حاشاه، مع أن ظروفه كانت أصعب ظروف لصاحب دعوة ومهمته كانت أصعب مهمة. ولو رُصد له موقف واحد لطار به المستشرقون فرحا ولَعَيَّرونا به. لكنه عليه الصلاة والسلام سيد الشجعان، سيد الشرفاء، سيد النبلاء، سيد ذوي المروءة والشهامة.رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم...تصوَّرْه معي: إنسان أبِيَّا يستهين بقوى الكفر كلها، متعلق قلبه بالله لا يخشى سواه، قد امتطى صهوة جواده مندفعا صوب هدفه لا يلتفت إلى الوراء ولا يبطئ المسير لحظة. فهو القائل:((ألا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم)) (رواه أحمد وصححه أحمد شاكر).وسيد الشرفاء صلى الله عليه وسلم هو الآمر بإنكار المنكر وجهاد المبدلين باليد واللسان والقلب...وهو النافي الإيمان عمن لم يجاهدهم.ولا عجب، فقد كان خلقه القرآن. والقرآن يحيي معاني العزة والشهامة والشجاعة وإباء الظلم...بآيات كثيرة يجب أن تحيي فينا الشجاعة وإلا فإنا وكأننا لم نقرأها. ألم يخاطبنا الله تعالى بقوله:((فلا تَخْشَوُا الناس واخشون)) (المائدة)وبقوله:((إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) )) (آل عمران)...أي أن الشيطان يخوف الناس من أوليائه، فلا ينبغي للمؤمن أن ينساق للشيطان، بل لا يخاف إلا ربه وخالقه سبحانه وتعالى.كما وصف الله أصفياءه من عباده المؤمنين بأنهم:((الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)) (الأحزاب)وليس مقبولا من مسلم أن يكتفي بإقامة الشعائر مع تعشيش الذل في نفسه، لأن ذلك يدل على ان العبادة لم تؤتِ أُكُلها:((إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله)) (18 التوبة)لهذا كله...لأننا أمة القرآن، أتباع سيد ولد عدنان...فنحن أَولى الناس بالشجاعة. نعم...نحن أولى بالشجاعة.عنترة الجاهلي اتصف بالشجاعة وهو يقول:إذا كشف الزمان لك القناعا ومد إليك صرف الدهر باعافلا تخـــــش المنية والْقَيَنْها ودافـع ما استطعت لها دفاعاويقول:عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنودونحن لسنا جاهليين بل نحن أمة العلم.. نحن تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم...نعلم ان الله كفل لنا أعمارنا وأرزاقنا...فنحن أولى بالشجاعة. المعتمد ابن عباد من أمراء الأندلس حارب يوسف بن تاشفين رحمه الله، وكان المعتمد على باطل في حربه ومع ذلك قال أبياتا من أجمل الشعر في الشجاعة:لما تماسكت الدموع وتنبه القــــــلب الصديعقالوا الخضوع سياسة فَلْيَبدُ منك لهم خضوعوألذُّ من طعم الخضـــــــوع على فمي السم النقيعإن يسلُبِ القوم العـــــدى ملكي وتسلمْني الجموعفالقلب بين ضلوعه لم تُسلمِ القلبَ الضلوعلم أُستَلَبْ شرف الطــــباعِ أَيُسلب الشرف الرفيعقد رمتُ يوم قتالهم ألا تحــــــــصنني الدروعما سرتُ قطُّ إلى القـتال وكان من هدفي الرجوعشِيم الأُلى أنا منهمُ والأصل تتبعه الفروعونحن لسنا أصحاب قضية باطلة، بل نحن على الحق...فنحنُ أَولى بالشجاعة.المتنبي كان طالب دنيا، ومع ذلك فَقِه أن وصف الجبن بالعقلانية والحكمة من طباع النفوس اللئيمة فقال:يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيموقال:كل حلم أتى بغير اقـــــتدار حــجــة لاجئٌ إليهـــــا اللئامذل من يغبط الذليل بعيش رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِماممن يَهُن يسهلِ الهوان عليه مــــا لــجــــرح بميت إيلامونحن، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لسنا طلاب دنيا بل طلاب آخرة...فنحن أَولى بالشجاعة.شاعر كويتي معاصر...لا أذكر اسمه لئلا أدل الناس عليه -وكم أتمنى له الهداية- فمع قوته الشعرية في انتقاد الأوضاع إلا أنه ينتقد الله تعالى من لندن! وهو مع ذلك يقول:فكُلُّ النّاسِ محكومـونَ بالإعـدامِإنْ سكَتـوا، وإنْ جَهَـرواوإنْ صَبَـروا، وإن ثأَرواوإن شَكـروا، وإن كَفَـرواولكنّي بِصـدْقيأنتقي موتاً نقيّـاًوالذي بالكِذْبِ يحياميّتٌ أيضَـاًولكِـنْ موتُـهُ قَـذِرُ!
أما نحن فنستمد العزة من الله تعالى ونستمد القوة من القوي العظيم سبحانه...فنحن أولى بالشجاعة.
فإن كان جاهليون، وأصحاب قضايا باطلة، وطلاب دنيا، وساخطون على الأقدار عندهم شجاعة...ألسنا أولى منهم؟لهذا كله فإنني، عند سماع نبرة التخاذل من بعض المنتسبين إلى العلم، أكاد أصاب بالغثيان وينعقد لساني من دهشتي لجرأتهم على الدين وسيرة سيد المرسلين وهم يدعون إلى القبول بالذل والهوان، مستخدمين في ذلك مصطلحات شرعية ومخرجين الآيات والأحاديث عن معانيها. هؤلاء دخلاء على السنة مهما أُعطوا من ألفاظ التفخيم والتضخيم-سماحة، فضيلة، معالي...إن من أكبر الجنايات على الإسلام محاولة إيهام الناس بأن دينهم يرضى لهم الذل...وتعظم المصيبة عندما تمارَس هذه الجناية من أناس أوتوا نصيبا من كتاب الله والعلم بأحاديث سيد الشرفاء صلى الله عليه وسلم، حتى إن السامع لهم ليُخيل إليه أنهم اطلعوا على وحي نسخ آيات وأحاديث العزة! وأصبحوا يصفون مواقف العزة والقوة في إنكار المنكر بالـ"عنتريات الجوفاء".أحبتي الكرام، لماذا نتنازل عن نعمة الشجاعة؟ خوفا على مصالحنا الدنيوية؟ واللهِ إن صفقة الشجاع لرابحة حتى دنيويا! يكفيه سلامة صحته النفسية في الوقت الذي تتمزق فيه نفوس الجبناء رعبا. قابلتُ أناسا عاشوا شجعانا أباةً ومات أحدهم بحادث سير، والآخر بوفاة عادية بعدما قارب التسعين. ومن بقي حيا منهم تراه على بلاياه هنيء البال مرحا يضحك من أعماقه. وعاصرتُ أناسا أكلوا ذلا وشربوا ذلا وتنفسوا ذلا وما استراحوا.إن الذي لا يؤدي ضريبة الكرامة مأجورا عزيز النفس سيؤدي ضريبة الذل لا محالة موزورا ذليلا.سيد قطب رحمه الله، الرجل الشجاع حقا، له في ذلك كلمات من أعمق كلام البشر نرى انطباقه في واقعنا انطباقا كاملا...نراه في كثير من محطات حياتنا اليومية. قال رحمه الله:(إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. إن ضريبة الذل أفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة... تخاف من ظلها وتفرق من صداها... يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.هؤلاء الأذلاء يودون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة... إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة... يؤدونها من نفوسهم ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سُمعتهم ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يودونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.إنه لابد من ضريبة يؤديها الافراد وتؤديها الجماعات وتؤديها الشعوب...فإما ان تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانه والعبودية. والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولافكاك) (في ظلال القرآن)نحن أولى بالشجاعة. فالشجاعة صفة المؤمنين، والجبن صفة المنافقين.لا عجب أن يجبن المنافق. فشكه في الله يمنعه من استمداد العزة من رب العزة سبحانه وتعالى:((ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون))والمنافق في ذلك أذل من الكفار والمبطلين. فإنا نرى الكفار يدافعون عن مبادئ ويوهمون أنفسهم بصحتها فتكون، على بطلانها، رمزا لهم يستمدون منه القوة. أما المنافق فلا مبدأ له...فلا هو كَسِب العزة الحقيقية المستمدة من الله عز وجل، ولا العزة الموهومة من المبادئ الباطلة. ولذا تراه يعيش حالة رعب مستمرة، يظن في كل لحظة أنه مأخوذ بجريرة السوء الذي تنطوي عليه نفسه: ((يحسبون كل صيحة عليهم))تماما كالجاني المخفي لجريمته يسير في الطرقات وكلما سمع صيحة ظنها النهاية.والمنافق ممزق النفس...فهو يعيش بين المسلمين ولا يأمنهم أن يكشفوا حاله فيحلف لهم أنه معهم قلبا وقالبا:((ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) )) أي: يخافون منكم أيها المؤمنون. ثم قال تعالى: ((لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لَوَلَّوْا إليه وهم يجمحون (57) )) أي: يتمنى المنافقون لو يفرون من المؤمنين إلى حصن أو مغارة في جبل أو سرداب أو نفق في الأرض...كل هذا ليتخلصوا من حالة الذعر المستمر...لكنهم لم يفروا...لماذا؟ لأن معيشهم وأموالهم وأهليهم في الأماكن التي فيها المؤمنون...ولذا تتمزق نفس المنافق بين البحث عن ملاذ يأمن فيه من الناس و في المقابل الحرص على الدينار الذي يعبد والدنيا التي من أجلها يعيش.وتأمل معي حرص المنافق على أية حياة...حتى ولو حياة ذل ومهانة...لا بأس، المهم أن يعيش! حتى ولو في مغارة أو مُدَّخل (أي سرداب) مظلم تحت الأرض...هناك مع الخفافيش في الظلام... لا بأس...فقد تعود على حبك المؤامرات على المسلمين في الظلام كالخفافيش، وتعود على مصارحة إخوانه المنافقين بشكه في الدين واستهزائه بالمؤمنين خفية كالخفافيش...وقلبه مظلم من النفاق كظلمة الأنفاق...فَلِمَ لا يعيش مع الخفافيش؟!ثم تأمل معي حال هذا المنافق الذي لم يَبق مع المسلمين إلا حرصا على الدنيا...تأمل حاله إذا أُخبر بأن عليه الاستعداد لخطر من الخارج يدهم المسلمين! سيزداد تمزق المسكين وحيرته. قال الله تعالى واصفا حالهم في هذه اللحظات:((فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت)) (19 الأحزاب)وقال تعالى: ((فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت))ذعر ما بعده ذعر! يصيب وقتَ التضحيات كلَّ من مرض قلبه بالشك في الدين والحرص على عيشة الذل.فليعلم كل من وجد في نفسه جبنا ومذلة أنه مشوب بالنفاق...وهذا للأسف حال كثير من المسلمين اليوم. يحرصون على حياة...أية حياة... ويخافون من أداء حقوق الله في موالاة المؤمنين والتبرؤ من الكافرين والمنافقين وإظهار العداوة لهم...كل هذا حرصا على الحياة، وبئست الحياة حياة الذل.وإن أعداء الإسلام يستغلون هذا الجبن في نفوس بعض المسلمين ، فينشرون صور السجناء العراقيين في سجن (أبو غريب) بالتقطير! لتحطيم معنوياتنا من فترة إلى أخرى ولتكون رسالة إلى كل من تدفعه نفسه إلى طلب الكرامة أن هذا مصير من يطلبها...وكأن من يسالمهم يأمن شرهم!((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))وكما يفعل مجرمو الكنيسة في مصر عندما "يسربون" أخبارا أن كاميليا شحاتة أصيبت بالجنون من التعذيب، وأظنهم في ذلك كاذبين، ليصدوا الأخوات المستترات بإسلامهن عن إعلان إسلامهن...ولكن سبحان الله! ازدادت حالات إشهار الإسلام لئن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فلا شيء يصده.وختاما:وَلوْ أنّ الحياةَ تبقى لِحــــــــيٍّ لـــعــدَدْنا أضَلّنا الشُّجْعاناغَير أنَّ الفَتى يُلاقي المَنَايا كالحِاتٍ ولا يُلاقي الهَوانا
وإذّا لم يَكُنْ مِن الموتِ بُدُّ فَمِن العَجْزِ أنْ تموت جبانا