من طبع النفس البشرية أنها يضعف لديها الشعور بالنعم المستمرة فتصبح فاترة باهتة في الحس. و إذا فقد الإنسان القناعة فإنه لا يفكر إلا فيما ينقصه من نعم حتى يشعر أن هذا الذي ينقصه هو أهم مقومات الحياة البشرية، و أن حياته لا طعم لها بدون هذا الذي ينقصه، تعال نستعرض أمثلة من ذلك:- الفقير يقول : ما قيمة الحياة دون مال؟! إن كنت لا أستطيع أن أوفر لأولادي ملابس جديدة في العيد, فينكسر خاطر إبنتي الصغيرة و يرتد بصرها حسيرا عندما ترى بنات الأقرباء يلبسن الجديد الفاخر و يمسكن بشنطة العيد في أيديهن، و هي بثياب و شنطة قديمة... فالمال كل شيء.هذا الفقير معافى في جسده متزوج قد رزقه الله أولاداً لكنه لا يرى هذه النعم لم يعد يفكر إلا فيما ينقصه.- المريض يقول ما قيمة الحياة دون صحة سليمة؟ ماذا تنفعني أموالي إن كان الطب قد عجز أن يجد لي شفاء لمرضي الذي يزداد حدة بمرور السنوات فيخيم على حياتي كابوس الإرتماء مقعدا لا أستطيع خدمة نفسي يوما من الأيام... أي طعم للحياة مع ذلك؟! ليتني أفقد مالي كله و أنعم بالصحة، فالصحة هي كل شيء.- العزباء التي لم ترزق زوجا تقول ما قيمة الحياة دون إشباع عاطفي؟ ماذا تنفعني شهادتي و مالي و صحتي إن لم أجد من آنس له و يأنس لي؟ إن لم يكن لي شريك روح أملأ عليه حياته و يملأ علي حياتي؟ ليتني أفقد كل شيء و أنعم بزوج يجعل لحياتي معنى.- السجين لفترات طويلة يقول : ما قيمة الحياة دون حرية؟! إني أُدفن قبل موتي! ماذا نفعني مالي و صحتي و تعليمي؟ الحرية هي كل شيء.- العقيم يقول : ما قيمة الحياة دون أولاد يملؤون البيت صخبا و بهجة؟ ماذا نفعني مالي صحتي إن كنت أنا و زوجتي لا نجد في بيتنا كل ليلة إلا الصمت و الهدوء القاتل؟ ما قيمة الحياة إن كانت ستنتهي بموتي فلا عقب لي يحمل إسمي؟ لمن أعمل و أجمع المال و لمن أتعب؟- دميم الخِلقَةِ يقول: ما قيمة الحياة إن كانت الأنظار تزدريني؟ ما قيمتها إن كنت أكره رؤية نفسي في المرآة كل صباح؟! ماذا نفعني مالي و شهادتي و صحتي بعد ذلك؟ ليتني أفقد كل شيء و أنعم بمظهر حسن.و هكذا؟! يزدري أكثر الناس – إلا من رحم الله – نعمة الله عليهم, و يظن كل مبتلى أن ما ينقصه هو أهم شيء أو كل شيء. فمن أصحهم شكوى؟ الفقير أم المريض أم العزباء أم السجين أم العقيم أم الدميم؟ هل المال هو كل شيء؟ أم الصحة؟ أم الزواج؟ أم الذرية؟ أم الجمال؟ أم الحرية؟ إما أن يكون أحد هذه الأشياء هو أهم شيء أو كل شيء، أو أنها جميعا دعاوى باطلة. و الحق أنها دعاوى باطلة! منشؤها نقص القناعة، و الذي يضخم حجم ما ينقص الإنسان بينما يجعل النعم العظيمة التي يتمتع بها فاترة باهرة في حسه. و لذا قال الله تعالى : "ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض"، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "انظروا إلى من هو دونكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"... فإنه لنكران جميل أن ترى نعم الله الكثيرة عليك لا شيء بينما ترى ما ابتلاك بفقده هو كل شيء! "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" (النحل 83) لذا فإنك ترى آيات كثيرة في القرآن تذكر بنعمة الله و تستحث الشكر عليها... "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" (38) يوسف... و إن أقبح الأوصاف في القرآن لمن لا يقدر النعمة ، لفظة الكفر :"فكفرت بأنعُم الله".إن هناك نعماً عظيمة لا نلاحظ وجودها أصلا و لا تحظى ببيان أهميتها في الدروس و المواعظ و الخطب، مع أنها لا تقل أهمية عما ذكر أعلاه من نعم. مثال ذلك نعمة "الدافعية". أينا سمع درسا أو خطبة أو قرأ في كتاب عن نعمة الدافعية؟ إذا أردت أن تعرف أهميتها فانظر إلى مريض الإكتئاب، ذلك المرض الذي كثيرا ما يكون غير معروف السبب و يتطلب معالجات مكلفة قد يتأخر مفعولها... و هو يختلف عن الحزن الذي يعتري أي إنسان بشكل عارض.سل مريض الإكتئاب كيف أنه فقد الدافعية للحياة، فلا دافعية للأكل و الشرب، و لا للتعلم و العمل، ولا لعلاج نفسه و لا من هو مسؤول عنهم، ولا لمؤانسه زوجه و ملاعبة أطفاله... الحياة كلها بلا طعم و لا لون و لا رائحة... لا يشتهي ولا يتمنى شيئا إلا الموت!فيا من ترى المال كل شيء، أتتمنى أن تؤتى المال و تفقد الدافعية؟ يا من تتمنين أن تفقدي كل شيء مقابل أن تعيشي في عش الزوجية، هل ستكونين سعيدة إن رزقت خير زوج و فقدت – لا أقول كل شيء- بل فقدت لدافعية فقط؟لذا أخي و أختي، علينا الحذر من ازدراء نعم الله علينا، علينا أن نستشعر هذه النعم و نجدد الإبتهاج بها في نفوسنا و نحن نتلو مثل قوله تعالى : "ألم تَرَوا أن الله سخّر لكم ما في السماوات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نِعَمه ظاهرة و باطنة" (لقمان-20)يبقى السؤال المهم: هل هناك نعمة غير ما ذكر يمكن إعتبارها كل شيء في هذه الحياة؟ نعم! إنها نعمة الإيمان... فبالإيمان تصبر على ما ابتليت به من فقد بعض النعم، فقد يكون صبرك نعمةً أكبر مما فقدت! مصداقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن: إذا أصابته سرا شكر فكان خيراً له، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"... فبينما بانعدام الإيمان تصبح النعم بلاءً و استدراجاً و سبباً في طول الحساب و شدة العذاب : "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين(178)" (آل عمران).لقد نجى الله يوسف عليه السلام من فتنة الدين، و هي محاولة النسوة إغواءه، و ابتلاه تعالى بالسجن، و هو بلاء دنيوي. و اعتبر الله ذلك فضلاً على يوسف و استجابةً لدعائه: "فاستجاب له ربه فَصَرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم"، مع أنه قدّر عليه سجناً طويلاً... نعم! فإن سلم الدين فبلايا الدنيا تنقلب مِنحاً للدنيا و الآخرة، كما حصل مع يوسف عليه السلام.فاللهم ارزقنا الإيمان و القناعة و الصبر.