2الشك في الأمور الغيبية

​كنا قد تكلمنا في المقال سابق عن مظاهر نقص الإيمان بالغيب، وهو العنصر الأول من موضوعنا. وفي هذا المقال نستعرض العناصر التالية:ثانيا) هل يقبل الله تعالى إيمانا مخلوطا بشك؟ثالثا) هل إيماننا إيمان أعمى؟رابعا) علاقة العقل بالإيمان بالغيب.خامسا) الإيمان بالغيب عقلانية والشك في الغيب ضيق أفق! نبدأ إذن بـ:ثانيا: هل يقبل الله تعالى إيمانا مخلوطا بشك؟قد يُطمئن الإنسان نفسه بأنه ليس منكرا للغيب إنكارا تاما وإنما "يغلب على ظنه" أو "عنده احتمال" أن تكون الغيبيات صحيحة! ويظن نفسه بذلك "مؤمنا إلى حد ما"! فهل يقبل الله تعالى "إيمانا" كهذا؟إن من تعريف الإيمان "التصديق الجازم"، أي الذي لا يتطرق إليه احتمال الشك. أما الظن والشك فهو من صفات الكافرين والمنافقين. قال تعالى:

((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) (يونس-الآية 36)وقال تعالى: ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ)) (النجم-الآية 23)وقال تعالى: ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) )) (النجم-الآية 23)وقال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) )) (الجاثية).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وثلاثة لا تسأل عنهم رجل نازع الله رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره عزه ورجل شك في أمر الله والقنوط من رحمة الله)) (صحيح-الأدب المفرد).فاتباع عقيدة ظنية هو من صفات الكفار. وهو كذلك من صفات المنافقين الذين قال الله فيهم: ((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) ))(التوبة).كما لا ينفع أحدا أن يؤمن بالغيب "احتياطا" كأنه يقول: إن تبين بعد الموت أن هناك جنة ونارا بالفعل فأكون قد فعلت ما يدخلني الجنة، وإن لم تكن جنة ولا نار فلم أخسر شيئا!

فهذا ظن لا ينفع صاحبه ولا يسمى إيمانا أصلا. وقد حكى الله تعالى هذا القول عن الإنسان: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى)) فبماذا عقَّب تعالى على هذا القول:((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) )) (فُصِّلت).

أما المؤمنون فقال الله تعالى فيهم: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) )) (الحجرات).فهم لا يرتابون أبدا في أمر العقيدة من وجود الله تعالى ومبعث نبيه عليه الصلاة والسلام وأن القرآن من عند الله والجنة والنار وغيرها من أركان الإيمان.أما الأخذ بغلبة الظن فإنما هو في أمر الأحكام والفقهيات.

ثالثا) هل إيماننا إيمان أعمى؟

هل المقصود مما سبق أننا مطالبون أن نؤمن إيمانا أعمى؟أبدا! بل الإسلام ثورة على التقليد الأعمى في أمور الدين! ولا يقبل منا الإسلام أن نسلم فقط لأن آباءنا مسلمون. بل قد ذم الله تعالى الكفار في مواضع كثيرة لتقليدهم آباءهم تقليدا أعمى في أمر الدين كما في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) )) (الزخرف)وقوله تعالى:((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) )) (المائدة)فيقينا لا يسمى أيماننا أعمى، بل العمى الوجداني صفة الكافر: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) )) (فاطر) بل هو إيمان على بصيرة:((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف-الآية 108).وهنا قد يظن القارئ أن في كلامنا فجوة! فتحكيم العقل في نصوص الشريعة مرفوض، والتقليد الأعمى للآباء مرفوض، والإيمان المختلط بشك مرفوض. إذن كيف يؤمن أحدنا إيمانا يقينيا بصيرا ينسجم مع العقل فلا يلغيه لكنه في الوقت ذاته لا يخضع للحسابات المادية؟ هذا السؤال ينقلنا إلى البند التالي:رابعا) علاقة العقل بالإيمان بالغيب:إن الوحي يخاطب العقل لإثبات قضايا الإيمان الأساسية ويستثير تفكير الإنسان ويحثه على التأمل والتدبر للوصول إلى الحقائق الإيمانية. لم نرَ الله تعالى، لكن القرآن يبين أن وجود الله حقيقة لا مفر منها نقرأها في صفحات الكون، نراها في كل مشهد من المشاهد اليومية. تدبر معي هذه الآيات التي تلفت إلى هذا المعنى ولاحظ كم مرة سيتكرر قوله تعالى ((ومن آياته))، أي من البراهين الدالة لا على وجوده فحسب، بل وعلى صفاته وعظمته سبحانه وتعالى. وتدبر كذلك خواتيم الآيات واستثارتها للتفكير والتحليل:

((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ(22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) )) (الروم)تكررت عبارتا: ((ومن آياته)) و ((إن في ذلك لآيات)) أحد عشر مرة! ويأمرنا الله أن نكون من الذين ((يَتَفَكَّرُونَ)) و ((عَالِمِينَ)) و ((يَسْمَعُونَ)) و ((يَعْقِلُونَ)).وكذلك قوله تعالى:((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) )) (البقرة) وقوله تعالى:((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) )) (آل عمران).فهل هذا دين يحجر على العقل ويلغيه ويطالب أتباعه بالتقليد الأعمى؟ حاش لله!وبعد إثبات وجود الله تعالى يثبت القرآن مسألة الخلق مخاطبا العقل والفطرة:

((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ (36) )) (الطور 52). ثم يثبت انفراده سبحانه بالربوبية واستحقاق العبادة مخاطبا العقل والفطرة:((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) )) (الروم).ثم يثبت أن القرآن من عند الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا العقل والفطرة:((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) )) (يونس). وبين أن عدم استجابتهم لتحدي الله لهم يدل على أنهم يتبعون الأهواء لا العقل، فإنهم لو اتبعوا العقل لاستسلموا وأسلموا لما عجزوا أمام التحدي:((فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) )) (القصص)ثم يثبت القرآن قضية البعث مخاطبا العقل والفطرة:((لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) )) (غافر)وكم في القرآن من أدلة لغوية وعلمية تتكشف لنا حينا بعد حين، وكم فيه من إخبار بأخبار الماضين وأخبار المستقبل جاءت كما أخبر الله، وكم فيه من أدلة منطقية على صدق نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (راجع محاضرة الأدلة المنطقية على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)...كلها دلالات تخاطب العقل والفطرة. فقضايا العقيدة الأساسية كلها تفهم بالعقل. فأي تقدير للعقل بعد ذلك؟فعدم إيمان من يسمع القرآن ليس لعلة في القرآن بل لعلة في السامع. قال الله تعالى: ((قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)) (الأنعام-الآية 149). فهو الكتاب الذي لو أنزله الله على جبل ((لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله)). ووصفه الله تعالى بقوله: ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)) (الرعد-الآية 31).

أي: لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله (تفسير ابن كثير).حدود العقل:

بعد أن يؤمن الإنسان بدين الله تعالى مستخدما عقله وفطرته فإن عليه أن يعرف أن لعقله حدودا. فليس من احترام العقل في شيء أن تفهم الحكمة من كل أمر إلهي قبل أن تمتثله. ليس من الحكمة أن نحاول إيجاد تفسير علمي لدوران الطائفين بالكعبة عكس عقارب الساعة! ولا أن نحاول البحث عن أضرار صحية لنمص شعر الحاجبين لإقناع الناس بحكمة التشريع! ولا أن نحاول إثبات أن الديكة ترى الملائكة والحمير ترى الشياطين بقوانين العلم الحديث!

ما دمت قد آمنت بوجود الله ونبوة رسول الله وأن القرآن كلام الله مستخدما عقلك وفطرتك إذن سلم فيما بعد ذلك ولا تجادل. فإنك إن اشترطت فهم الحكمة أو العلة من كل أمر لا تكون قد عبدت الله بل عبدت عقلك القاصر وخضعت له! لأنك جعلته حاكما على امر الله فما قبله أخذته وما رده رفضته. لذا فإنك ترى أن الله تعالى يختبر إيمان عباده بالغيب بأمرهم بأشياء لا يفهمون حكمتها. كما اختار الله شجرة حرَّم على آدم عليه السلام الأكل منها ولم يبين له الحكمة، وأوحى إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ولم يبين له الحكمة. وترى في الأحاديث كذلك تدريبا على الإيمان بالغيب واستشعار وجوده كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا تثاءب أحدكم فليضع يده بفيه ؛ فإن الشيطان يدخل فيه)) (الأدب المفرد-صححه الألباني) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أكل من هذه البقلة، الثوم، فلا يقربن مسجدنا. فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) (مسلم). فيبقى الإنسان مرتبطا بالغيب مستحضرا لعداوة الشيطان ومَعِيَّة الملائكة.

ونقول لمن ينكر حقيقة أن للعقل حدودا: أنت بمعزل عن الوحي لا تعرف منشأك. نشرت مجلة(Earth) العالمية ذات التوجه الدارويني مقالا سنة 1998 جاء فيه :(نحن نودع القرن العشرين و مازلنا كما كنا في بدايته نواجه معضلة لم نجد لها إجابة؛ وهي: كيف بدأت الحياة؟). أنت لا تعرف طبيعة الروح التي بها تعيش، وإذا انتهى أجلك فإنك لا تستطيع رد الروح إلى نفسك. بل ولا تدرك كثيرا عن الكون من حولك، وهو جزء من السماء الدنيا فقط. ذكر موقع الويكيبيديا (اضغط هنا) أن مجموع ميزانيات وكالة الفضاء الأمريكية (NASA ) منذ تأسيسها عام 1958 حتى عام 2008 بلغ ما يعادل 806.7 مليار دولار، أي بمعدل 15.8 مليار دولار سنويا! مع ذلك كنت قد قرأت عام 2002 في موقع الـ(NASA ) ما نصه:

"In recent years, we have learned that 95% of the Universe is made of a type of matter or energy that we cannot see nor understand"

أي: اكتشفنا حديثا أن 95% من الكون مصنوع من مادة أو طاقة لا نراها ولا ندرك كنهها!فهل لهذا الإنسان بمحدودية عقله وقدراته أن ينكر غيبيات لمجرد أنها لم توافق عقله؟! ضرب الشيخ عبد المجيد الزنداني لذلك مثالا جميلا: لو أن أعمى أُعطي البصر للحظة واحدة ما رأى فيها إلا رأس ديك ثم عمي بعدها، فإنه سيظن أن الدنيا هي رأس الديك، وإذا قال له أصحابه سافرنا بالطيارة قال ما هي من رأس الديك فإن رأيت الدنيا (رأس الديك). وكذلك الإنسان الذي ينكر وجود أي شيء لا يحسه. بل تفكر في الجنين في بطن أمه لو قُدر أن نحاوره فهل سيصدق أن في الوجود شيئا غير السائل المحيط به في رحم أمه؟ وما نحن إلا أجنة في رحم هذه الدنيا ((وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) )) (الإسراء)إذن فعندما يضع دين الله حدودا للعقل فإن في ذلك صيانة له عن التخبط في غير مجاله وعما لم يؤهَّل للخوض فيه, وإلا كنا كمن يحاول أن يستخدم الحاسة في غير موضعها فيريد أن يشم بعينه أو يأكل بأنفه!

خامسا) الإيمان بالغيب عقلانية والشك في الغيب ضيق أفق!إن الشاك في الغيب يرى يوميا ظواهر دالة على قدرة الله تعالى. فلو كان صاحب تفكر واستنتاج لعلم أن الله لا يعجزه شيء. لذا نرى أن القرآن ينمي القدرة على الاستنتاج ليسهل على الإنسان أن يؤمن بالغيب. قال تعالى:((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) )) (يس)

فعجيب أمر من يؤمن بأن الله خلق الناس ثم يشك بأنه تعالى سوف يبعثهم! وقال تعالى:((لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) ))(غافر)فبإمكانهم إجراء مقارنة كمية بالنظر في عظمة هذا الكون ليستنتجوا بالمنطق البسيط أن الله قادر على بعث الموتى.

وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا الاستنتاج العقلي البسيط الرصين. ففي الحديث الذي أخرجه البخاري أن رجلا قال: يانبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)). قال قتادة أحد الرواة: بلى وعزة ربنا .

فنعجب من أناس مسلمين، بل بعضهم يتصدر للدعوة وإعطاء الدروس، كيف يتشككون في أحاديث فيها غيبيات لم توافق عقولهم، ويحاولون ردها والطعن في أسانيدها بمنهج غير علمي، وكأنهم يستحيون من نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإلا فما الفرق بين أن تؤمن بأن الله تعالى عطل قوانين التوتر السطحي والمستطرقات والجاذبية عند ضرب موسى عليه السلام البحر بالعصا؟ وقوانين البيولوجيا والطب عندما أحيى عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله؟ وقوانين الكيمياء عندما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم وعندما لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت؟ ما الفرق بين أن تؤمن بذلك كله وأن تؤمن بغيبيات وردت في أحاديث صحيحة مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث)) (مسلم)، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ . وقال : ((كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام)) (البخاري).ما الفرق بين أن يؤمنوا بتعطيل كل القوانين وعلى رأسها أول قوانين الفيزياء (المادة لا تفنى ولا تستحدث) عندما خلق الله الخلق من عدم وأن يؤمنوا بهذه الغيبيات؟أليس في الاقتصار على الإيمان بأشكال من الغيب ألفها الإنسان في الصغر ثم الفشل في التقدم خطوة واحدة للإيمان بأشكال أخرى ليست أكبر على قدرة الله...أليس في ذلك ضيق أفق وانعدام القدرة على الاستنتاج؟!إن من أعظم الامثلة على الفرق بين العقلاء الحكماء المؤمنين بالغيب والجهال ضيقي الأفق الشاكين فيه قصة موقف أبي بكر في مقابل موقف أبي جهل من حادث الإسراء. في الحديث الذي رواه أحمد وصححه أحمد شاكر والألباني قال عليه الصلاة والسلام:((لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي)). فقعد معتزلا حزينا. قال: فمر عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه فقال له– كالمستهزئ - : هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نعم)). قال: ما هو؟ قال: إنه أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: ((إلى بيت المقدس)). قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا!؟ قال: ((نعم)). فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه. قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نعم)). فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي! فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أسري بي الليلة)). قالوا: إلى أين ؟ قال: ((إلى بيت المقدس)). قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: ((نعم)). قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب؛ زعم ! قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد – وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد - ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت. فجيء بالمسجد وأنا أنظر حتى وضع دون دار عقال – أو عقيل - ، فنعته وأنا أنظر إليه – قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه –)) فقال القوم: أما النعت؛ فوالله لقد أصاب!فالجاهل بل أبو الجهل ومن معه ضاقت آفاقهم عن استيعاب أن الله تعالى خالق الزمان والمكان، وهو قادر على أن يلغي حدود الزمان والمكان وينقل رسوله من أي مكان إلى أي مكان آخر في أي وقت شاء. فليس ذلك أكبر من قول رسول الله أنه نبي ليستهزئوا به ويستفظعوه! تتمة القصة ما صححه الألباني في السلسلة الصحيحة:لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه ، وهؤلاء أيضا ضيقوا الأفق صدقوا بأنه نبي ثم لم يصدقوا أنه يُسرَى به، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟! يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال أبو بكر: (أَوَقال ذلك؟) قالوا: نعم. قال: (لئن كان قال ذلك لقد صدق). قالوا: أَوَتُصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: (نعم. إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه: بخبر السماء في غدوة أو روحة) فلذلك سمي أبو بكر الصديق. الله أكبر! ما أجمل فهمك وما أوسع أفقك وما أرصن منطقك يا أبا بكر.وكذلك ارتد أناس من ضيقي الأفق عندما حول الله القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام:((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)) (البقرة-الآية 143) يريد الله ان ينقي الصف المؤمن من هؤلاء الضيقي الأفق، فما شأنهم هم أن يحولهم الله إلى المشرق أو المغرب ما داموا آمنوا بالله تعالى؟ ((قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)) (البقرة-الآية 142). لذا وصف الله أصحاب هذا السؤال: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) بأنهم: (السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ). فهم سفهاء ضيقوا الأفق.بقي أن نتكلم في المقال القادم بإذن الله عن العناصر التالية:

سادسا) الفرق بين الإيمان بالغيب في الإسلام والأديان الأخرى.سابعا) هل وساوس الشبهات قادحة في الإيمان بالغيب؟ثامنا) خطورة الأحاديث الموضوعة وتأثيرها على الإيمان بالغيب